زائر الفجر الفصل السابع .. بعد إخماد الحريق و بزوغ الشمس و انتهاء كل شيء و حضور رجال الشرطة لمعرفة ملابسات الحادث و كيف اشتغلت النيران في المخزن وبعد المعاينات الأولى لم يجدوا سببا واضحا لما حدث؛ فلا أثر لمادة حارقة أو ماس كهربائي ولا حتى سيجارة.. المكان خال تماما من أي سبب يؤدي لاشتعال المخزن..
و مثلما حدث أُغلق المحضر و قيد ضد مجهول كما حدث مع حادثة السيدة فهيمة دون معرفة الفاعل الحقيقي. حسنا يبدو أن ذلك المجهول له أذرع عدة سوف تطال أهل البلدة الساكنة دوما لينقلب حالها رأسا على عقب.
اشتعلت الحرائق في المنازل دون سبب.. موت الحيوانات و احتراق المخازن.. و ذات يوم بعد بدء العمل في بناء المصنع و المهندس يشرف على كل شيء، ذهبت للموقع لتلقي نظرة على ما يدور هناك و سير العمل رغم أنه ليس من اختصاصها لكنها ذهبت ربما لسبب آخر في نفسها.
وقفت على مقربة من المهندس “مجدي” تنظر إليه تحاول لفت انتباهه إليها و عندما تأكدت أنه رآها تنظر إليه اصطنعت الانشغال بهاتفها و رمقته بنظرة مغوية و انصرفت مبتسمة لينظر في إثرها شاردا من تلك الفتاة الجميلة التي مرت منذ قليل. تكرر الموقف عدة مرات لأسبوع كامل بنفس الطريقة ليتأكد أنها رسالة منها تخبره بطريقة ما أنها معجبة به، سأل عنها أحد الشباب العاملين في الموقع ليخبره أنها شقيقة الحاج صفوان الصغرى و أنها غير متزوجة، حسنا محاولاتها تلك اعتبرها إشارة خضراء بالاقتراب و أن المجال مفتوح أمامه دون منافس فهي بنفسها تحاول لفت انتباهه.
*************************
ذات يوم وصل ضيف للقاء الحاج صفوان في منزله وبعد انصرافه جمع أخوته يخبرهم بهوية الضيف و طلبه فلم يكن سوى المهندس مجدي أتى طالبا يده ربة الصون و العفاف الآنسة فاطيما، فلقي طلبه استحسان الجميع خاصة فضل و حسان فقد أثنوا على أخلاقه و سمعته لاغبار عليها، بينما هي لم توافق و رفضت بشدة تمسكا منها بموقفها السابق ورغبتها المستميتة في الارتباط بذلك العجوز المتصابي هارون..
“أنا قولت كلمة مش هرجع فيها خطوبتك على المهندس مجدي الأسبوع الجاي و انسى هارون ده نهائي، حضروا نفسكم و شوفوا لوازمكم إيه وإنتي يا صفية و أسماء انزلوا معاها تشتري حاجتها الي لازماها للخطوبة و الاولاد كمان” قد أعطى صفوان رأيه و انتهى الأمر.. ليرقص الأولاد فرحين و سعداء لخطبة عمتهم بينما هي تنظر إليهم نظرات غامضة وغاضبة، أما عنايات فانتابها شعور سيء لا تدري سببا له لكنها لم تعد ترتاح لتصرفات فاطيما كأنها استبدلت تماما بأخرى ليست منهم.
بعد قليل نهضت تنصرف لغرفتها لكنها سمعت عنايات والأطفال يقرأون القرآن لتصرخ بعلو صوتها ترجوهم أن يصمتوا و تصم أذنيها عنهم، انتابتها حالة هياج شديدة و بدأت بتحطيم ما تطاله يديها لتسقط أرضا فاقدة وعيها. هرعت إليها عنايات متحاملة على نفسها رغم عدم قدرتها على الركض. وروايح تحاول إفاقتها لكن دون جدوى.
حاولت صفية و أسماء بينما الأطفال يبكون بصمت مما حدث لها ظنا منهم أنهم أزعجوها بأصواتهم. طلبت منهم روايح الذهاب لغرفتهم و بعد بضع دقائق بدأت تستعيد وعيها لتنظر إليهم و عينيها حمراء كالدم.. ارتعبت منها عنايات و روايح ولو تقوى إحداهن على الاقتراب منها، لكنها تحاملت على نفسها و عادت لغرفتها.
استمر تجاهل صفوان لها طيلة الأسبوع و التحضيرات مستمرة و تم الاتفاق أن الخطوبة ستكون مقتصرة على العائلة فقط و مجدي و بعض اقاربه نظرا لحالة وفاة السيدة فهمية و حريق المخزن فلم ينسى الجميع ماحدث.
يوم الخطوبة…
تمت الليلة على أكمل وجه و اجتمع المدعوين للعشاء مع عائلة صفوان بينما العروسان في غرفة الجلوس يتناولان العشاء سويا، حاول مجدي الحديث معها ظنا منه أنها تبادله نفس الشعور و هي تحاول رسم ابتسامة مزيفة على شفتيها و مجاراته فيما يقول.
مساء بعد انصراف الجميع و عودة مجدي إلى السكن الخاص به، سمع طرقات على باب الشقة نهض ليرى من الطارق فلم يجد أحدا، ظن أنه ربما أحد الاطفال يضايقه لكنه لم يهتم. مرة أخرى عاودت الطرقات على الباب و لا أحد في الخارج.
تلقى اتصالا من فاطيما في منتصف الليل ظن في البداية أن هناك شيء ما يحدث معهم لكنها بررت اتصالها بأنها اشتاقته وتريد التحدث معه قليلا.
بعد مضي ساعتين تقريبا انتهى الاتصال بينهما و تبقى القليل حتى الفجر…
لم يستطع النوم فحاول قراءة كتاب ما ريثما يمر الوقت لكنه سمع صوت صرخة امرأة في الخارج.. ركض مسرعا حيث سمع الصوت فلم يجد شيء.
كلما حاول العودة للمنزل سمع صراخا و لكن هذه المرة تصرخ باسمه لينجدها، استمع جيدا للصوت فلم سكن سوى صوتها هي.. فاطيما…
ربااااه ربما تعرضت للأذى لكن لما تناديه في هذا الوقت المتأخر و كيف تخرج وحيدة من المنزل؟؟ ركض يبحث عنها ويناديها يصرخ باسمها: فاطيماااا.. انتي فيييين.. ردي علياااا.. فاطيماااا.
سمع صوت أنين خلف الشجرة القريبة منه فاتجه إليها راكضا فلم يجد شيء.
*****************
صباحا….
طرقات شديدة على الباب و صراخ يأتي من بعيد… ركضت روايح تفتح الباب لترى أحد أبناء البلدة يلهث و يبدو عليه الفزع قائلا: الحاج صفوان.. الحاج صفوان فين يا خالة.. بسرعة الله يخليكي قوليله ييجي بسرعة عند الموقع في مصيبة هناك..
وركض من أمامها وهي تناديه أن يخبرها ماحدث لكنه ركض سريعا..
بعد عدة دقائق وصل صفوان و أشقاءه للموقع لتنال منهم الصدمة من هول المنظر..
فالمهندس مجدي معلق من رقبته مشنوق يتدلى من البناء و جسده ممزق كأن حيوانا بريا افترسه بوحشية و ترك ما تبقى منه للغربان تنهشه.
لم يتمالك صفوان نفسه و كاد يسقط أرضا ليجد سواعد إخوته تتلقاه و تسانده… الكل حوله يقف مقهورا على ذلك الشاب الطيب الخلوق الذي ترك أثرا طيبا في النفوس برغم قصر المدة التي قضاها بينهم و ماكاد يخطب شقيقة صفوان حتى انتهت حياته بطريقة بشعة.
ابتعد الكل يفسحون المجال للضابط و رجاله الذين سارعوا بفض ذلك التجمع ليتسنى لهم إنزال الجثة أو ما تبقى منها منتظرين رجال المباحث و المعمل الجنائي لمعرفة ملابسات الحادث.
تم نقلها بسيارة الإسعاف و بدء التحقيق مع الجميع و كل من له صلة بالقتيل و من آخر شخص رآه و أول من عثر عليه..
التحقيق مستمر و ما من جديد، حتى بعد تشريح الجثة تبين أنه شُنق حتى الموت أولا ووجود آثار تفيد بمقاومته الشديدة ليتم تمزيق جسده بوحشية لكن تلك الآثار لا تطابق بينها وبين حيوان شرس أو آلة حادة.. فما الفائدة إذا من التمثيل بجسده بعد شنقه؟ لابد أن الفاعل شخص مريض نفسيا أو
سا.دي يجد متعته في تعذيب ضحيته هكذا.. من غير المعقول أن يكون شخصا طبيعيا.
انتشر الخبر في البلدة سريعا ووصل لمنزل صفوان لتبكي النسوة قهرا و حزنا عليه وعلى فرحته التي قُتلت في مهدها بينما هي جالسة كأن ماحدث لايمت إليها بصلة!! أي جبروت هذا و أي قلب تمتلك بين ضلوعها؟..
انتهى الطب الشرعي من عمله و تشريح الجثة ثم إعطاء الإذن بالدفن..
***************
العزاء المقام ليلا في البلدة حضره الجميع وكان يقف على رأسهم كبير عائلة الناجي الحاج صفوان وأشقائه يتلقون واجب العزاء في المهندس مجدي
ليأتي آخر شخص يقدم تعازيه إليهم..
هو ذلك الرجل المتصابي صاحب الهيئة المخيفة هارون.. كيف واتته الجرأة ليأتي إليهم و بكل وقاحة يهمس إليهم بخفوت: البقاء لله يا حاج.. الله يرحمه ملحقش يفرح بالخطوبة، بس نصيبه كده.. ماهو مينفعش كمان يتجرأ على حاجة مش بتاعته و عمرها ما هتكون لغيره. الأحسن إنكم توافقوا عشان متزعلوش على حد تاني..
و انصرف بكل جبروت ووقاحة بعدما ألقى مافي جعبته و التي يبدو أنها تحمل الكثير لهذه البلدة.
اقترب شيخ الجامع منهم ينظر في إثرذلك المدعو هارون يحاول أن يكتشف هويته من ظهره فلم يستطع. اقترب من الحاج صفوان يعزيه ويواسيه ليتوقف مكانه مصدوما يحدث نفسه قائلا: مستحيل.. مستحيل يكون هو..مش ممكن!!
*****************
رواية لم اكن يوما سجينتك الفصل السابع